ثلاث رسائل و حادث

الجمعة، 13 مايو 2011

ايها الاحياء الآمنون المرزقون

سلام الله عليكم و رحمته و بركاته 

طبتم و طاب ممشاكم و تبؤتم من الجنة نزلاً

باختصار تام لدي رسالة تمت علي ثلاثة ايام احببت ان اسردها عليكم 
لاني احوج ما يكون الي دعائكم لي 

منذ ثلاثة ايام او اكثر قمت بتحديث بوست قديم لاول مرة علي مدونتي 
كان عن اصدقاء لي توفاهم الله 
اسأل الله ان يكونوا في جنة خلد و ان يجمعني بهم علي سرر متقابلين في جنات النعيم 
و كتبت في بداية البوست 

مرت شهور وايام و اعياد و افراح و احزان و احداث 
كانوا فيها علي بالي اتذكر كيف سيكون حالهم لو كانوا معي؟ و ما هي ارائهم في امور و احداث الثورة ؟

رفعت .. ختعن .. كشك .. معوض 

في قلوبنا الي يوم يرجعون

هذه الرسالة الاولي

 لي قد بعثها الله لي لأتذكر 

ان من الممكن ان يكون عليك الدور لما لا ؟


الرسالة الثانية 

بعث لي احد المدونين لينك تدوينة جديدة 
ايضا كتب فيها عن الموت قرأتها و علقت
و قلت :

يا بني مش عارف اقول لك ايه 
الله يسامحك 
تحياتي 


الرسالة الثالثة

كانت من احد قراء التدوينة التي ذكرتها 
( ختعن - رفعت - كشك - معوض )

قال لي بعد قرائتها اول امس احذر يا مصوراتي 
بلاش تستعجل 
خد بالك من الطريق
ظل يذكرني و يحذرني و ينبهني كثيرا 

حتي جاء اليوم المرتقب 

الحادث

امس في طريق عودتي الي مدينتي
من كليتي و علي طريق دسوق - دمنهور 
و لمن لا يعلم هذا الطريق فهو طريق غير منسق جيدا 
و ليس به اتجاهان و حارات بل القادم و الراحل في حارة واحدة 
فالحوادث اكثرها علي هذا الطريق 
تكون علي هذا الشكل 


وش في وش 

و هذا ما حدث معي بالامس 
و كنت اتكلم الي نفسي منذ فترة كيف سيكون حالي 
في مثل هذه الامور و هل سأجذع ام ساهدأ و احتوي الاخرين و اهدأهم ؟

فوضعت في الامر و وجدت الهدوء في و احتواء الاخرين 
و كنت اخر الخارجين من باب السواق بعد ان اغلقت كل الابواب و من خرج من الشباك خرج 

ثم احترقت السيارة 


و عدت الي بيتي و انا مبتسم و اتألم بعض الشيء من قدمي

الحمد لله انا بخير الان 


و في الخاتمة 

اقول ان الرسالة وصلت و فهمت و ان شاء الله تنفذ
الي ان اخرج من روع الامر و مشهد الاصتدام الذي لا يفارق عيناي 

اقرأ رسائل ربك فهي رحمه منه لمن احبه 
و علي من احب ربه ان ينفذ ما في محتواها 

فكما يري الرسل و الانبياء الرؤا 
و عليهم تنفيذها 
و ايضا كان يرسل اليهم بالوحي 
ليتعلموا و يعلموا 

انت كذلك تبعث اليك رسائل ربانية 
علي الله ان يعلمك و عليك ان تنفذ



الجزء الثاني .. فكر وآثار الإمام البنا

الأربعاء، 11 مايو 2011


من أنتم أيها الإخوان المسلمون

يقول الناس: ما أنتم أيها الإخوان المسلمون..؟! إننا لم نفهمكم بعد، فأفهِمونا أنفسكم، وضعوا لنفسكم عنوانًا نعرفكم به.. كما تُعرف الهيئات بالعناوين.. هل أنتم طريقة صوفية؟ أم أنتم جمعية خيرية؟ أم مؤسسة اجتماعية؟ أم حزب سياسي؟ كونوا واحدًا من هذه الأسماء والمسمَّيات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم.

فقولوا لهؤلاء المتسائلين:
نحن دعوةُ القرآن الحق الشاملة الجامعة.. طريقة صوفية نقية؛ لإصلاح النفوس، وتطهير الأرواح، وجمع القلوب على الله العلي الكبير.. وجمعية خيرية نافعة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتواسي المكروب، وتبر بالسائل والمحروم، وتصلح بين المتخاصمين.. ومؤسسة اجتماعية قائمة، تحارب الجهل والفقر والمرض والرذيلة في أية صورة من الصور.. وحزب سياسي نظيف، يجمع الكلمة، ويبرأُ من الغرض، ويحدد الغاية، ويحسن القيادة والتوجيه.
وقد يقولون بعد هذا كله: ما زلتم غامضين..!! فأجيبوهم: لأنه ليس في يدكم مفتاح النور الذي تبصروننا على ضوئه، نحن الإسلام أيها الناس.. فمن فهمه على وجه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه، فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون.

----------------------

الطريق من هنا

﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ (الأحزاب: 39).
الأمة الإسلامية تحمل رسالة الله لعباده، وتحرس أمانته في أرضه؛ أمانة المثل العليا والأخلاق الكريمة، والأوضاع السليمة التي تقوم على العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
وقد أخذ الله العهد والموثق على هذه الأمة التي اجتباها- وما جعل عليها في الدين من حرج، وجعلها أمة وسطًا، هي خير أمة أخرجت للناس- أن تبلغ رسالة الله لعباد الله، وألا تقصر في هذا التبليغ بحالٍ من الأحوال، وأن تحفظ هذه الأمانة القدسية، وتحميها من كل اعتداء، وأن تبذل في سبيل هذا التبليغ وهذه الحماية كل ما تملك من أنفس وأرواح ودماء وأموال، وافترض عليها الجهاد بذلك كله في سبيل الله.. متى تُعرَّض رسالة الله وأماناته التي بين يدي هذه الأمة لبغي الباغين وعدوان المعتدين.. ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ﴾ (التوبة: 111)، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحجرات: 15).
وحين وجَّه الله عباده المؤمنين برسالته الحافظين لحدوده هذا التوجيه الرباني الكريم القويم غشَّاهم السكينة، وألقى في قلوبهم الطمأنينة، وجلَّلهم برداء الإيمان، وثبَّتهم بهداية اليقين، فلم يرهبوا أحدًا، ولم يخافوا شيئًا، ولم يقصروا في واجب، ولم يحسبوا حسابًا لقلة أو كثرة أو عدد أو عدة، وحسبهم أنهم آمنوا أصدق الإيمان بأن الله سينصرُهم، وأنه إن نصرَهم فلا غالبَ لهم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).
في هذا الطريق سارت هذه الأمة شوطًا بعيدًا، آمنت برسالة الله وأمانته، واجتهدت في التبليغ عُذرًا أو نُذرًا، وامتشَقَت الحسامَ؛ حمايةً للعدل والرحمة والحق من أن تضيع في جلبة الظالمين وضوضاء المعتدين، وحقَّق الله لها وعده، فنصرها نصرًا مؤزرًا.
اليوم وقد ران على قلوب الناس ما كانوا يكسبون من إثم وفساد وبغي وعناد، وضلت الإنسانية كلها سواءَ السبيل، وتألبت قوى الشر على ما بقي في الأرض من بقية الخير، وتقمَّص إبليس عصابات الصهيونية الشريرة، ومن ورائها اليهودية العالمية الفاجرة، ومعها دول الكفر وأمم الاستعمار الظالمة المعتدية الباغية.. الآن علينا- نحن المسلمين- في كل أقطار الأرض أن ندرك خُطانا، وأن نعدل خط مسيرنا، وأن نبدأ الطريق التي سلكها أسلافنا من جديد، نكفُر بهذه النظم جميعًا، ونتنكَّر لهذه الأوضاع جميعًا، ونقاطع هذه الضلالات كلها، ونؤمِن بالله ربًّا قويًّا قديرًا جبارًا قهارًا، لا يُعجزه شيء؛ لأن بيده ملكوتُ كل شيء: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82) .
ونؤمن برسالة الله التي بين أيدينا نظامًا اجتماعيًّا ربانيًّا، لا عِوج فيه ولا أَمْتًا، ونتجمَّع من حول هذه الرسالة من أقصى المحيط إلى أقصى المحيط، من إندونيسيا المسلمة إلى الدار البيضاء المسلمة كذلك، ونعلن الجهاد لله وللحق وللعدل وللإحسان على هذا البغي الذي عمَّ وطمَّ، وجاوز التقديرات والحدود، واكتوينا بناره وجحيمه، وسيصلى العالم كله عن قريب- ما لم تتغير الحال- لهيب جمراته وحميمه، فإن انتصرنا عشنا سعداء، وإن قضينا قضينا شهداءَ كرماء: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا﴾(التوبة: 52)، ولابد من النصر ما دمنا صادقين: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: 40).
يا رؤساء الدول الإسلامية..
ويا زعماء الشعوب الإسلامية..
إياكم أعني، وإليكم أوجه القول.

----------------------

بين اليأس والأمل

﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف: من الآية 87 ).
لا أتصور مؤمنًا بالله وبالقرآن يجد اليأسُ إلى قلبه سبيلاً، مهما أَظلمت أمامه الخطوب، واشتدت عليه وطأة الحوادث، ووقعت في طريقه العقبات.
إن القرآن ليضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال، قال تعالى: ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ﴾ (الحجر: 56)، وإن القرآن ليقرِّرُه ناموسًا كونيًا لا يتبدل، ونظامًا ربانيًا لا يتغيَّر.. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إن الأيام دولٌ بين الناس، وإن القويَّ لن يستمرَّ على قوته أبد الدهر، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنَّها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب، كما تعترض الآحاد والأفراد..﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 140).
وإن حكمة الله في ذلك أن يبلوَ المؤمنين، ويختبر الصادقين، ويَمِيز الخبيثَ من الطيبِ؛ فيجعل الخبيثَ بعضَه على بعضٍ، فيركُمَه جميعًا، فيجعلَه في جهنَّم، ويؤجر الصادقين الثابتين نصرًا وتأييدًا في الدنيا، ومثوبةً ومغفرةً في الآخرة.. ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: 31) ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 142) ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حتى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).
وأقرب ما يكون هذا النصر إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر.. ﴿حتى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110).
ولم تختلف هذه القاعدة الربانية في الأمم السابقة، فكم من أمةٍ ضعيفةٍ نهضت بعد قعودٍ، وتحركت بعد خمودٍ، وكم من أمةٍ بطِرتْ معيشتَها، وكفرت بأنعُم الله، فزالت من الوجود، وأذاقها الله لباسَ الجوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعون.
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ (الإسراء: 4- 6)، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ* وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ (القصص: 4- 6).
وإن القرآن ليمدَّ هؤلاء الصابِرينَ الآمِلين- الذين لا يجدُ اليأسُ إلى قلوبهم سبيلاً- بمعينٍ من القوة لا تفيض إلا من رحمة الله وقدرته، تتحطَّم أمامَها قوى المخلوقين، وتعجَز عن إِضعافِها والنيلِ منها محاولةُ العالَمين، وما يعلم جنود ربك إلا هو.. ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 175)، ﴿قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: 23).
وقد لا يخطر ببال هؤلاء المؤمنين الصابرين أنهم سيصلون إلى الغاية بمثل هذا اليُسر، أو تتحقق لهم الآمال بهذه السهولة، ولكن الله العليَ يُدني منهم ما بعُد، ويهوِّن عليهم ما صعُب، ويوافيهم بالنصر من حيث لا يحتسبون.. ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ* وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ (الحشر: 2- 3)، ﴿وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ (الأحزاب: 25- 26).
فيا أيها المؤمنون بهذا الكتاب الكريم:
أيليقُ بكم أن يقول قائل: ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء؟!
أوَيَجمل بأحد منكم أن يتخلَّف وفي صدره هذا الأمل الواسع، ومن ورائه هذا التأييد الشامل عن وصف الجهاد؟! اللهم لا.

----------------------

من دستورنا

إن (الإخوان المسلمين) يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين:

قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه، وآمن ببعثة رسوله وما جاء به، وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط؛ رابطة العقيدة، وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون، الذين نحن إليهم، ونعمل في سبيلهم، ونذود عن حماهم، ونفتديهم بالنفس والمال في أي أرض كانوا، ومن أية سلالة انحدروا.
 
وقوم ليسوا كذلك، لم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط، فهؤلاء نسالِمهم ما سالَمونا، ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانَهم عنا، ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطةً، هي رابطة الدعوة.. علينا أن ندعوَهم إلى ما نحن عليه؛ لأنه خير للإنسانية كلها، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدَّد لها الدين نفسه من سبل ووسائل، فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يرد به عدوان المعتدين..
 
أما إذا أردت ذلك من كتاب الله:
1- ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية10).
2- ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ﴾ (الممتحنة: 8- 9).

وحدة:
والأمة الإسلامية أمة واحدة؛ لأن الأخوة التي جمع الإسلام عليها القلوب أصل من أصول الإيمان، لا يتم إلا بها، ولا يتحقق إلا بوجودها، ولا يمنع ذلك حرية الرأي وبذل النصح من الصغير والكبير، وللصغير والكبير كذلك؛ وهو المعبَّر عنه في عُرف الإسلام ببذل النصحية، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
 
وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم"، وقال: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم.. فقد تودّع منها!!"، وفي رواية: "وبطن الأرض خيرٌ لهم من ظاهرها"، وقال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله".
----------------------

 آخر ما كتبه الإمام الشهيد موجهًا للإخوان

في 8 ربيع الآخر سنة 1370 = 16 يناير سنة 1951 نشرت مجلة (المباحث) آخر رسالةٍ وجَّهها الإمام الشهيد "حسن البنا" إلى الإخوان المسلمين، قال فيها:
أيها الإخوة الفضلاء: أتقدم إليكم مهنئًا بما كتب الله لكم من توفيق، وما أجراه على أيديكم من خير.. وما اختصكم به من ثباتٍ على الحق، مهما تقلبت الأحداث، وطالت الأعوام.
كما أتقدم إليكم مذكرًا بخصائص دعوتكم بين الدعوات، وعظيم تبعتكم في هذه الأوقات.. فاذكروا- أيها الإخوان- أنكم الكتيبة المؤمنة التي انتهى إليها- في هذا العصر المادي المظلم بالشهوات.. الأهواء.. المطامع- واجبَ الدفاع عن كلمات الله ورسالاته، والمحافظة على أحكام شريعته وآياته، ودعوته الإنسانية التائهة في بيداء الحيرة إلى الصراط المستقيم.. فأنتم بذلك تهتفون بأكرم دعوة، وتنادون بأقدس منهاج.

أيها الإخوة الفضلاء:
إن العالم الآن تتجاذبه شيوعية روسيا وديمقراطية أمريكا، وهو بينهما مذبذب حائر لن يصلَ عن طريق إحداهما إلى ما يريد من استقرار وسلام.. وفي أيديكم أنتم قارورة الدواء من وحي السماء.. فمن الواجب علينا أن نعلن هذه الحقيقة في وضوح، ندعو إلى منهاجنا الإسلامي في قوة، ولن يضيرنا أنَّ ليس لنا دولة ولا صولة؛ فإنَّ قوة الدعوات في ذاتها ثمَّ في قلوب المؤمنين بها، ثمَّ في حاجة العالم إليها، ثم في تأييد الله لها متى شاء أن تكون مظهر إرادته وأثر قدرته .
وإن الأربعمائة مليون مسلم الذين تمتد مواطنهم من المحيط إلى المحيط لن يظلوا أبدًا عبيد الاستعمار الذي ضرب عليهم في غفلة من الزمن، وترادف المحن وتطورات الأوضاع العالمية.
وإن كل شبر أرض فيه مسلم- يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله- هو جزء عزيز من وطننا.. نطلب له الحرية، والتخلص من نير الاستعمار الأجنبي الظالم، ونكافح في سبيل ذلك بكل ما أُوتينا من قوة، وإنَّ هذا الوطن- من حدود إندونيسيا شرقًا إلى حدود الدار البيضاء غربًا- يجب أن ينعم بالحرية والوحدة والسلام في ظل الروابط والنظم والأوضاع التي قررها القرآن الكريم، وهداه إليها الإسلام دينه وعقيدته ونظامه وشريعته.
ولقد كان من حسن حظنا أن نشهد ذلك العصر الذي تقف فيه اليهودية العالمية متحدية الأمم العربية والإسلامية.. معتدية على مقدساتنا بالحديد والنار، وإننا لنقبل هذا التحدي، معتقدين أن الله تبارك وتعالي قد ادخر لنا فضلَ مقاومة هذا العدوان والقضاء عليه .

الإخوة الفضلاء:
إذا كان الكثير من ساسة الأمم العربية الإسلامية وقادتها من تلامذة المدرسة الاستعمارية قد أضاع علينا كل ما أتاحته الحرب الماضية – حرب 48 – من فرص ومناسبات؛ لما طبعتهم عليه عوالم البيئة الاستعمارية التي عاشوا في ظلها من فقر في المواهب، وخوف من الغاصب، وفقدان للثقة بالنفس وبالله وبقوة الشعب، وحرص على الاستفادة والتزود من الجاه والمال والمنصب، وحقد وحسد واختلاف وتردد وإحجام عن أداء الواجب، وفرار من الجهاد إلى إعطاء الدنية وإيثار أساليب الدعة والاستسلام، فإن عليكم أنتم وقد استروحتم نسمات العزة من الإيمان بالله، واستمددتم أرفع معاني القوة من تأييده ونصره أن تتداركوا ما فات، وأن تصلحوا ما أفسد الباشوات والخواجات.. والله معكم وهو لأعدائكم بالمرصاد، ومهزوم مَن يُحارب الله ويغالب القدر، ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
إن الله ميَّزكم بالانتساب إلى الدعوة؛ فاحرصوا على التميز بآدابها وشعائرها بين الناس، وأصلحوا سرائركم، وأحسنوا أعمالكم، واستقيموا على أمر الله، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وتوجهوا بالنصيحة في رفقٍ ولينٍ إلى الناس أجمعين، واستعدوا للبذل والاحتمال، والجهاد بالنفس والمال، وأكثروا من تلاوة القرآن، وحافظوا على الصلوات في الجماعات، واعملوا لوجه الله تعالي مخلصين له الدين حنفاء، وانتظروا بعد ذلك تأييد الله وتوفيقه ونصره، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).
وإن أخص ما أوصيكم به بهذه المناسبة أن يكون شعارنا النظافة: في الضمير والتفكير وفي اللسان وفي السير وفي الثوب وفي البدن وفي المطعم والمشرب والمظهر والمسكن والتعامل والمسلك والقول والعمل، وإنَّ مما أوصى به الرسول- عليه الصلاة والسلام- أمته: "تنظَّفوا حتى تكونوا كالشامة بين الأمم".
وما أجملها إشارة وأرقها عبارة أن يكون أول فقهنا في العبادات الطهارة.. وفي الحديث الصحيح: "مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور"، وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة :222).

----------------------

"البنا": مناجاة على أعتاب العام الهجري الجديد
للإمام الشهيد "حسن البنا" رحمه الله

* نشرت هذه المناجاة في مجلة (الإخوان المسلمون) العدد 767 غرة المحرم 1368هـ الموافق الموافق 2/11/1948م.
قلت للرجل الواقف على باب العام: أعطني نورًا استضيء به في هذا الغيب المجهول، فإنني حائر فقال لي: ضع يدك في يد الله فإنه سيهديك سواء السبيل.
وعلى مفترق الطرق وقف الساري الكليل في موكب الزمن يلقي بنظرة إلى الوراء ليستعرض ما لقي من عناء السفر ومتاعب المسير، ويلقي بنظرة إلى الأمام يتكشف ما بقي من مراحل الطريق.
أيها الحائر في بيداء الحياة إلى متى التيه والضلال وبيدك المصباح المنير
﴿قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (المائدة: 15 – 16).
أيها الحيارى والمتعبون الذين التبست عليهم المسالك فضلوا السبيل، وتنكبوا الطريق المستقيم.. أجيبوا دعاء العليم الخبير ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ (الزمر: 53 – 54) وترقبوا بعد ذلك طمأنينة النفس، وحسن الجزاء وراحة الضمير ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ (آل عمران: 135 – 136).
أيها الأخ العاني المتعب الرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، إياك أعني وإليك أوجه القول: إن باب ربك واسع فسيح غير محجوب، وبكاء العاصين أحب إليه من دعاء الطائفين.. جلسة من جلسات المناجاة في السَحَرِ، وقطرة من دموع الأسف والندم، وكلمة الاستغفار والإنابة يمحو الله بها زلتك، ويُعلي درجتك، وتكون عنده من المقربين و"كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".. ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ (البقرة :222).
ما أقرب ربك إليك وأنت لا تدرك قربه! وما أحبك إلى مولاك وأنت لا تقدر حبه! وما أعظم رحمته بك وأنت مع ذلك من الغافلين! إنه يقول في حديثه القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب إلى شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" وفي حديث آخر: "يا ابن آدم امش إلي أهرول إليك" وإنه "ليبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل"، وأنه لأعظم رحمة بعبده المؤمن من الأم الرءوم بولدها الحبيب.. ﴿إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ (الحج: 65).
ومَن عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة، فالوقت هو الحياة، وحين تُطوى عجلة الزمن عامًا من أعوام حياتنا لنستقبل عامًا آخر، نقف على مفترق الطريق، وما أحوجنا في هذه اللحظة الفارقة أن نُحاسب أنفسنا على الماضي وعلى المستقبل من قبل أن تأتي ساعة الحساب وإنها لآتية: على الماضي فنندم على الأخطاء، ونستقيل العثرات ونقوم المعوج، ونستدرك ما فات، وفي الأجل بقية وفي الوقت فسحة لهذا الاستدراك، وعلى المستقبل فنعد له عدته من القلب المنقى والسريرة الطيبة والعمل الصالح والعزيمة الماضية السباقة إلى الخيرات، و"المؤمن أبدًا بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت"، وما يوم ينشق فجره إلا ويُنادي ابن آدم "أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".
لقد حاولت أن أكتب بمناسبة العام الجديد في ذكريات الهجرة، وقصص الهجرة، وعيد الهجرة، وكيف نحتفل بالهجرة فوجدتني مسوقًا إلى غير ذلك كله.. إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء الذين أهملوا حق الوقت، وغفلوا عن سر الحياة، ولم يتدبروا حكمة الابتلاء الذي وُجدنا من أجله ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك: 2) ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ﴾ (الإنسان:2) رأيتني مسوقًا إلى مناجاة هؤلاء الإخوة الأعزاء بهذه الكلمات لعلنا نستطيع أن ننزع يدنا من قياد الشيطان، ونسير مع كتائب الرحمن في موكب المغفرة والرضوان، فتكون غرة المحرم الحرام صفحة بيضاء نقية مشرقة في سجل الحياة إن سودت الذنوب كثيرًا من الصفحات يبدلها الله بالتوبة الصادقة حسنات مباركات ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ* وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ (الشورى:25، 26)، ما أعظم رقابة الله على عبادة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ* إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ* مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 16- 18) ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ (الزخرف :43)، وما أدق الحساب يوم الجزاء ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة: 7 – 8).

----------------------


كانت الشهادة أمنيته كما كان الجهاد حياته.. يقول أحد تلاميذه: "سألت الإمام يومًا وأنا في صحبته إلى المنزل، فقلت له: يقول "الشاذلي" في بعض أدعيته، وهو يسأل الله: "هب لنا الحكمة البالغة مع الحياة الطيبة والموتة المطهرة.."، فماذا يقصد بـ(الحياة الطيبة والموتة المطهرة)؟
قال: "الحياة الطيبة هي حياة الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموتة الطاهرة هي الشهادة"، ثم قال لي: "انصرف، وادع الله أن يرزقنا الحياة الطيبة والموتة الطاهرة، فلا نموت كما تموت الخِرفان، أو كما شبَّه خالد بن الوليد- رضي الله عنه- موتته على فراشه بأنه يموت كما يموت البعير".

مجاهد يتمنَّى الشهادة

وفي أواخر حياة الإمام، وقبل استشهاده بنحو أسبوعين- والظروف يومئذٍ على أشُدِّها- قال قائل: يا أستاذ، الإشاعات عنك كثيرة وعما سيكون معك، قال الإمام: ماذا سيكون؟ أهو القتل؟! إننا نعرف أنه شهادة، وهي أمنيتنا، قال السائل: والدعوة؟! قال: لقد أديت مهمَّتي، وتركت رجالاً، ورأيت بعيني أنهم رجال، وسأموتُ الآن مطمئنًا، والذى أريده هو أن أموتَ شهيدًا.. وتحققت الأمنية وكانت الشهادة.

حديث الشهيد عن الشهادة

1- صناعة الموت:
في مقالٍ بعنوان (صناعة الموت) في مجلة (النذير).. العدد 12- في 2 من شعبان 1357هـ= 1938م جاء فيه:
"أَجَلُّ صناعةٍ الموتُ، فالموتُ صناعة من الصناعات، من الناس من يحسنُها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرةَ من دمه بأغلى أثمانِها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصور الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنقص من عمره ذرة، ولم يفقِد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجَلاً قد حدَّده الله.
ومن الناس جبناء أذِلة، جهلوا سرَّ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم الواحد ألفَ موتةٍ ذليلةٍ، وبقي وموتاتُه هذه حتى وافته الموتةُ الكبرى ذليلةً كذلك، لا كرمَ معها ولا نُبلَ فيها، في ميدان خاملٍ خسيسٍ ضارعٍ، وقضى ولا ثمنَ له، وأهدرَ دمه ولا كرامةَ.

2- صناعة الموت مرة أخرى:
وفي ختام رسالة (الجهاد) تحدث مرةً أخرى عن صناعة الموت فقال:
"أيها (الإخوان)، إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياةَ العزيزةَ في الدنيا والنعيمَ الخالدَ في الآخرة، وما الوهن الذي أذلَّنا إلا حبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت، فأعِدوا أنفسكم لعمل عظيم، واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة، واعلموا أن الموت لابدَّ منه، وأنه لا يكون إلا مرةً واحدةً، فإن جعلتموها في سبيل الله كان ذلك ربحَ الدنيا وثوابَ الآخرة، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم، وتدبَّروا جيدًا قول الله تبارك وتعالى: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (آل عمران: 154).
فاعملوا للموتة الكريمة تظفَروا بالسعادة الكاملة، رزقنا الله وإياكم كرامة الاستشهاد في سبيله".

3- هُبِّي ريحَ الجَنَّة:
وفي مقال بعنوان (هبي ريح الجنة) في مجلة (الإخوان) 3/11/1945م، جاء فيه:
"إذا كان اليهود في فلسطين قد أعدُّوا عدتهم من ذخيرة وسلاح، وتجهَّزوا للعدوان الصارخ.. فإن هناك ملايين من المصريين ومن العرب ومن المسلمين يتضرعون إلى الله في سجودهم أن يرزقَهم الشهادة في سبيله، وألا يكون موتُهم هكذا حتفَ أنوفهم كما يموت البعير".

4- فن الموت:
وفي مقالٍ بعنوان (فن الموت) في جريدة (الإخوان) اليومية 16/8/1946م، جاء فيه:
"والموت فنٌّ.. وفنٌّ جميل أحيانًا على مرارته، بل لعله أجمل الفنون إذا تناولته يد الفنان الماهر.. ولقد عرَضه القرآن على المؤمنين به عرضًا كريمًا، وجعلهم يحرصون عليه ويحبونه، ويهيمون به حبَّ غيرهم على الحياة.. وللناس فيما يعشقون مذاهب.. ولن ينجي المسلمين اليوم مما هم فيه إلا أن يعودوا إلى فلسفة القرآن في الموت.. ويتلقَّونه على أنه فنٌّ.. بل فنٌّ جميل حقًّا".

5- ثمن الحياة:
تحت عنوان (ثمن الحياة) كان حديث الأستاذ "البنا"، الذي أذاعه من محطة الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة، ونشرته مجلة (الفتح)، العدد 857، في رجب 1367هـ= 1948م، جاء فيه:
"عجيب أن يكون ثمن الحياة هو حب الموت، ولا ثمنَ لها إلا هذا، ولهذا كان فيما أوصى به أبو بكر- رضي الله عنه- خالدًا في بعض غزواته: "يا خالد، احرص على الموت توهب لك الحياة".
والقرآن الكريم يقرر أن الفناء في الحق هو عين البقاء، وأن ذات الموت في سبيل الله هو حقيقة الحياة، فيقول: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169- 170).
وتأمل هذه الإشارة اللطيفة في الآيات الكريمة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ*وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 143- 245).
لتعلم أن الموت ثمن الحياة، وأن حب الحياة نذير الموت، وأن الأمة التي تريد أن تعيش كلها لابد أن تموت كلها؛ لأنها لم تدفع من دمها ضريبة الحياة.
"وليس حب الموت ثمن الحياة وحدها، ولكنه ثمن الحياة وثمن النصر وثمن العزة وثمن الخلود، وهي أطيب ما في الحياة، وهذا قانونٌ لم يتخلَّف من قبل، ولا يتخلف اليوم، ولن يتخلفَ من بعد؛ لأنه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً".
"لقد أدرك أسلافنا هذه الحقيقة، فحرصوا على الحياة الكريمة بالإقدام على الموت في ساحات البطولة والمجد، وكان أحدهم يندفع إلى القتال لا يبالي أَوَقَع على الموت، أم وقع الموتُ عليه:﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).
 
----------------------

الإمام البنا وتربية النشء (1/2)

هذه محاضرةٌ ألقاها الإمام "حسن البنـا" في جمعية الشبان المسلمين عام 1927م..

أثر التربية في حياة الأفراد والأمم
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أيها السادة:أرأيتم بقعةً من أديم الأرض أهملت فأنبتت الشوك والسعدان، وصارت قفْرًا بورًا، لا تُنبتُ زرعًا ولا تُمسك ماءً.. وأخرى تعهَّدها زارعٌ ماهرٌ بالإصلاحِ والحرث، فإذا هي جنةٌ يانعةٌ تُنبت من كل زوج بهيج.. ذلك مثل الأفراد والأمم إذا أهملها رجال التربية ولم يعنوْا بوسائل إصلاحها ورقيِّها، وهذا مثلها إذا قاموا عليها بالرعاية وساروا بها إلى غاية.. فالتربية الصحيحة تهيئ الفرد للمعيشة الكاملة، وتصل بجسمه وروحه إلى الكمال الإنساني، وترشده إلى حقوقه وواجباته، وهي لهذا أكبر مؤثر في حياة الأمم، وعليها يتوقف مقتبلها، وعنها تنتج عظمتها وسقوطها..
في الكون كل وسائل السعادة للبشر، أودعها الله فيه يوم أبدعه، ولا ينقص الناس إلا أن يتعرفوا على هذه الوسائل، ويهتدوا إلى الطريق الموصل إلى استثمارها على وجهها؛ ليحيَوا حياةً طيبةً في الدنيا والآخرة.
علمت ذلك الأمم الحديثة، فكان أول ما تهتم له في مناهجها الإصلاحية التربية، تحديد غايتها، وتعرُّف أقرب الوسائل للوصول إلى هذه الغاية.. أراد "فردريك" الأكبر- مصلح روسيا العظيم- أن يصل بأمته إلى أوج العظمة، فوجد أن أقرب الوسائل لذلك إصلاح التربية بإصلاح أهم وسائلها وهي المدارس، فأصدر قوانينه المدرسية العامة في سنة 1763م.
وهنا يحسن أن أذكِّر حضراتكم بأنَّ التربية أمر يشمل كل المؤثرات في حياة الشخص، وأنَّ التعليم وسيلةٌ من وسائل التربية فقط، ولما كان أهم وسائلها كان مرادفًا لها في أذهان كثيرين، فنحن حينما نقول التربية نقصد بها ذلك المعنى الأعمَّ الذي يشمل التعليم وغيره من وسائلها، وقد ذكر الباحثون في حياة الأمم أنَّ السر في نشاط الإنجليز وعظمتهم ما اختطوه لأنفسهم من طرق التربية الصحيحة بفضل رجالهم المربين، أمثال: "سبنسر"، و"هكسلي"، و"تشارلس إليوت"، وغيرهم من القدماء والمحدثين..
وهذا "إدمون ديمولان"- العالم الاجتماعي الفرنسي العظيم- يهيب بأمته أن تفكر في سبيل إصلاح التربية، معتقدًا أن نقص التربية وفسادها، هو السبب الأول في كل ما يعرض للأمة من الآلام والأزمات، وأن في إصلاح التربية وتكميلها علاجَ كل ذلك.
وما أبعد نظر ذلك الطبيب الذي ترك الطب واشتغل بأمور التربية ومعالجة مسائلها، فلما سُئل عن ذلك كان جوابه: "وجدت- بالاستقراء الدقيق- أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية، فآثرتُ أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول، على أن أقضي الوقت في علاج ما ينجُم عن هذا السبب، والوقاية خير من العلاج، ولا أشك أني بذلك أقوم بأعظم خدمة للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد".
وقديمًا قال الإمام "الغزالي": "وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً؛ وإنما يكمل ويقوى بالنشوء والتربية بالغذاء، فكذلك النفس تُخلق ناقصةً، قابلةً للكمال، وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم.. والصبي مهما أهمل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذابًا، حسودًا سروقًا، نمَّامًا لحوحًا، ذا فضول وضحك وكياد ومجانة؛ وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب"، ومن ذلك- أيها السادة- ترون أن التبعة الملقاة على عاتق المربين عظيمة؛ إذ إن بيدِهم تشكيل نفسية الأمة، ورسم حياتها المستقبلة.

غاية التربية التي نرجوها لأمتنا:
يجب أن نحدد غايتنا من تربية النشء تحديدًا دقيقًا واضحًا؛ حتى يمكننا معرفة الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية، وما لم نحدد الغاية فإننا نسير بالأمة على غير هُدى.. ويجب أن تكون هذه الغاية شاملةً ومشتركةً مرضيةً؛ حتى تتوجه إليها الأمة كتلةً واحدةً، فإن تعدد الغايات في الأمة الناشئة- وخاصة في بدء نهوضها- يؤدي إلى تفريق القوى، وتوزيع الجهود، فلا تصل الأمة إلى القصد إلا بعناءٍ وبُعدِ زمن..
وقد اختلف المربون في غاية التربية الإنسانية اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من جعلها السعادة، ولكن في السعادة نفسها مذهب خاص، ومنهم من جعلها الارتزاق، ومنهم من جعلها روحية محضة، ومنهم من جعلها الفضيلة والكمال، ومنهم من جعلها العيشة التامة.. إلى غير ذلك من الغايات، التي كان ينتزعها أصحابها من مستلزمات عصورهم، ومن روح التفكير التي تسود تلك العصور، واختلفت تبعًا لتلك الوسائل، وإن كان المربون قديمًا وحديثًا أجمعوا على وجوب العناية بالغاية الدينية.
ولسنا بصدد مناقشة هذه الغايات، وبيان الأولى منها بالعناية والرعاية، ولكنَّ الذي يعنينا أن نحدد غايتنا نحن، تلك الغاية التي يجب أن تتوجه إليها جهود الأمم الإسلامية في هذا العصر بعد الإلمام بكل ما يحيط بها من الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية وغيرها، وكأننا برأس الموضوع نفسه يملي علينا هذه الغاية، ويلخصها في أنها: "حب الإسلام والتمسك بآدابه والغِيرة عليه".
وبما أنَّ هذا الدين يأمر بالعناية بالشئون الدنيوية، ويحثُّ على السبق والتميز فيها، مع عدم إغفال أمر الآخرة، على حد قوله تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: من الآية 77)، وعلى حد قوله تعالى: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: من الآية 97).
فليست التربية الإسلامية تربيةً دنيويةً عملية كما كانت عند اليونان مثلاً، وليست دينيةً محضةً كما كانت عند (الإسرائيليين) قديمًا؛ وإنما هي جماعٌ بينهما، كما مدح "جرير" "عمر بن عبدالعزيز":
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ولا عرَض الدنيا عن الدين شاغله
ونزيد ذلك تفصيلاً فنقول: غاية التربية المقصودة:
ا- تحبيب الإسلام إلى النفوس والغِيرة عليه.
2- تهيئة السبيل للنجاح في الحياة.
3- الدفاع عن المصلحة الدينية والدنيوية وتنمية الشعور بالغيرة.
وإذن فما الوسائل التي تؤدينا إلى هذه الغاية؟

وسائل إصلاح التربية الإسلامية:
يتأثر الناشئ في حياته بعوامل كثيرة، وإصلاح تربيته وقفٌ على إصلاح هذه المؤثرات وتوجيهها نحو الغاية الخاصة، وأهم هذه المؤثرات: المنزل، والمدرسة، والبيئة.

1- المنزل:
الطفل أول ما يرى من الوجود منزله وذويه، فترتسم في ذهنه أول صور الحياة مما يراه من حالهم وطرق معيشتهم، فتتشكل نفسه المرنة القابلة لكل شيء، المنفعلة بكل أثر بشكل هذه البيئة.
يقول الإمام "الغزالي": "الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يُمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه، نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشرَّ وأهمل إهمال البهائم شقِي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له"، ويقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "كل مولود يولد عليه الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه"، وإلى هذا أشار "أبو العلاء" في قوله:
وينشأ ناشئ الفتيـان منَّـا           على ما كان عوده أبوه
ما دان الفتى بحجي ولكن              يعوده التديـن أقربوه
وإذا كان للمنزل كل هذا الأثر في حياة الطفل وجب- تحقيقًا للغاية السالفة- أن يحاط بكل ما يغرس في نفسه روح الدين والفضيلة..

وأهم الوسائل في إصلاح المنزل:
أولاً: ترقية تعليم المرأة عندنا، وتزويدها في المدارس بالقدر الوافر من الدين والخلق، وإفساح المجال في مناهج دراسة البنات للبحوث البيتية، وتراجم فُضليات النساء، اللاتي كُنَّ مضرب المثل في الخلُق الفاضل في زمنهم؛ كـ"نسيبة بنت كعب"، و"أسماء بنت أبي بكر"، و"صفية بنت عبد المطلب"، و"خولة بنت الأزور"، و"سكينة بنت الحسين"، وغيرهن كثير..
فالأم مدرسة إذا هذبتها      أخرجت شعبًا طيب الأعراق
أما أن تستمر مناهج تعليم البنات عندنا كما هي عليه الآن، فتُعنى بالكمالي والضارِّ، وتترك الضروري والنافع، فهذا مما لا يبشر بحياة طيبة للنشء الإسلامي..
تدرس البنت في مدارسنا الموسيقى واللغة الأجنبية والهندسة الفراغية والقانون الآن، ثم هي لا تعلم شيئًا عن تربية الطفل، ولا تدبير الصحة، ولا عالم النفس، ولا الدين والخلُق، ولا تدبير المنزل.. فأي منهج هذا؟! وإلى أي غاية يُوصِّل؟!
من لي بتربية البنات فإنها            في الشرق علة ذلك الإخفاق
والأمُّ إذا صلحت فانتظر من ابنها أن يكون رجلاً بكل معنى كلمة الرجولة، وأنت إذا استقرأت تاريخ العظماء وجدت أنَّ السر في عظمة الكثيرين منهم ما بثته فيهم الأم من المبادئ الصالحة القويمة بحكم البيان والتلقين.. وما كان "على بن أبى طالب"- كرم الله وجهه- في حبه للحق، وغِيرته عليه، ومناصرته للرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا "معاوية" في حلمه ودهائه، ولا "عبدالله بن الزبير" في شجاعة نفسه، ولا "الزبير" نفسه في ذلك إلا سرًّا من أسرار "فاطمة بنت أسد"، و"صفية بنت عبد المطلب"، و"أسماء بنت أبى بكر"، و"هند بنت عتبة".
ولئن كان الولد سرَّ أبيه، فكل إناء ينضح بما فيه..
وحريٌّ بمن يسمع في مهده- لأول عهده بالحياة- ترنيمة أمه:
ثكلت نفسي وثكلت بكري              إن لم يسد فهـرًا وغير فهـر
بالحسب العـدّ وبذل الوفر            حتى يوارى في ضريح القبر
أن يكون سيدًا تتفجر الحكمة من جنبيه، وتنطوي السيادة في برديه، كما كان "عبدالله بن عباس" بتأثير أمه "أم الفضل بنت الحارث الهلالية"، وحريٌّ بمن يطرق سمعه لأول مرة تلك الأغاني الخليعة والترنيمات الغثَّة- التي يداعب بها أمهات هذا العصر أبناءهن- أن ينشأ ماجنًا خليعًا، فاتر الهمَّة، ضعيفَ النفس..
الأم أستاذ العالم، والمرأة التي تهزُّ المهد بيمينها تهزُّ العالم بشمالها، فلأجل أن نصلح المنزل يجب أن نصلح الأم التي هي روحه وقوامه.
ثانيًا: أن يحرص الأبوان على أن يكونا خير قدوة لابنهما في احترام شعائر الدين، والمسارعة إلى أداء فرائضه، وبخاصة أمامه وعند حضوره.. يؤدون الصلاة، ويقصون عليه من نبأ الصالحين، فأيقظ غرائزه في هذه السن غريزةُ التقليد، والمثل الأعلى أمامه أبواه ومن يحيط به من ذويه، فعليهم أن يكونوا كما كتب "عمر بن عتبة" لمؤدب ولده: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك؛ فالحَسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت".
ثالثًا: أن يضع كل من الوالدين نُصب عينه أن يشبع أبناءه بروح الدين والشعور الإسلامي في كل الفرص المناسبة، يتحدث إليهم عن عظمته ورجاله وفائدته وأسراره، ويصطحبهم إلى المساجد والمنتديات الدينية، ويشعرهم المخافة من الله تعالى، وهيبته باستخلاص العبر من الحوادث، وأن يُعنى بتحفيظهم شيئًا من كلام الله وكلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: أن يحول الأبوان دون تسرب الكتب الهازلة والصحف الماجنة إلى ابنهما، لا بالمنع والتهديد- فإن ذلك مما يزيد شغفه بها وإقباله عليها- ولكن بصرفه إلى كتب نافعة مغرية، وإثارة الميل فيه إلى هذه الناحية الصالحة.
وهنا أذكر شدة حاجتنا إلى كتب في القصص العام الإسلامي للأطفال، تجمع بين تشويقهم إلى المطالعة، وملاءمتها لمداركهم وقواهم العقلية، وتزويدهم بالشعور الإسلامي.. والقصص الإسلامي غني بذلك من سير الصحابة والتابعين وأمثالهم- رضوان الله عليهم.
وأذكر كذلك ضرورة احتواء المنزل على مكتبة مهما كانت يسيرة، إلا أن كتبها تُختار من كتب التاريخ الإسلامي، وتراجم السلف وكتب الأخلاق والحِكَم والرحلات الإسلامية والفتوح ونحوها.. ولئن كانت صيدلية المنزل ضروريةً لدواء الأجسام، فالمكتبة الإسلامية في المنزل ضروريةٌ لإصلاح العقول.
وما أجمل أن أذكر هنا قول "سعد بن أبي وقاص"- رضي الله عنه-: "إننا لنروِّي أبناءنا مغازي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما نروِّيهم السورة من القرآن".
أما واجب جمعيات الشبان المسلمين في ذلك فهو إيجاد هذه الروح في الشعوب الإسلامية، وتشجيعها بكل وسائل الإمكان، ومن هذه الوسائل:
1- تدريس نظام المنازل والأسر الإسلامية؛ لتعرف أوجه النقص وأسبابه، وأوجه الكمال ووسائله، وذلك من برنامج اللجنة الاجتماعية التي نصَّت عليها اللائحة الداخلية.
2- حمل الأعضاء أولاً على ذلك، وإقناعهم بأنَّ هذا من أهم الأغراض التي ترمي إليها الجمعية، والتي تؤدي إلى تكوين نشءٍ إسلامي فاضل، ثم هم بعد ذلك يقومون بدعوة غيرهم.
3- الإكثار من المحاضرات في شئون الأسرة والطفل، وتوزيع النشرات لترويج هذه الدعاية.
4- تأليف اللجان لتصنيف الكتب القصصية اللازمة لخلق هذه الروح في نفوس الأطفال، وفي الجمعيات- بحمد الله- من يمكنهم ذلك بسهولة، لو وجَّهوا له شيئًا من عناياتهم، ووهبوا له جزءًا من أوقاتهم، وهو من واجب اللجنة العلمية المذكورة في اللائحة.
5- مطالبة الوزارة بإصلاح مناهج تعليم البنات ومدارس المعلمات، والإكثار من التعليم الديني وتراجم شهيرات النساء المسلمات، ونحو ذلك مما يتصل به، والاهتمام بهذا الأمر اهتمامًا يتناسب مع جليل خطره.
6- إنشاء مدارس لتعليم البنات، وهذا يكون طبعًا بعد أن يشتد ساعد الجمعيات ويقوى، وتجد المعاونة من أغنياء الأمة وسَراتُهم.
وأراني هنا مضطرًا إلى القول بأنَّ جمعيات الشبان المسلمين لم تحقق هذه الغاية إلى الحد المأمول منها؛ ولهذا يرجع ذلك إلى أنها في بدء التكوين، وإلى أن ماليتها محدودة لا تتسع لذلك، إلا أنَّ الواجب أن تهتم بكل وسيلة ممكنة حتى تتمكن في النهاية من كل الوسائل.. والله ولي التوفيق.

----------------------

"الإمام البنَّا" وتربية النشء (2/2)

2- المدرسة:
وهي العامل الثاني من عوامل التربية، وهو أهمها وأبلغها أثرًا في حياة الطفل؛ إذ تقوم بالقسم الأعظم من تربيته، وهو التعليم والثقافة العقلية، فيجب أن نوجه إليها العناية بالإصلاح حتى تؤدي إلى الغاية المنشودة.
وإذا قلنا المدرسة فإنما نعني أمرين مهمَّين لا يفترق أحدهما عن الآخر:
أولهما: مناهج التعليم التي هي بمثابة الغذاء العقلي للتلميذ..
والثاني: المعلم الذي يقوم بتوصيل هذا الغذاء إلى العقل..
ولإصلاح المدرسة يجب العناية التامة بإصلاح هذين، ولإصلاح المعلم عدة وسائل، أيسرها وأقربها إلى التحقيق مطالبة الوزارة بإصلاح مناهج مدارس المعلمين بأنواعها، وجعلها غنيةً بالتعليم الديني والتاريخ الإسلامي وفلسفة العقائد وأسرار التشريع ونحو ذلك، ويلي هذه الوسيلة أن تقوم جمعيات (الشبان المسلمين) بفتح فصول ليلية وفي الإجازات الطويلة، كإجازة الصيف- مثلاً- لمن يحب من المعلمين وطلبة مدارس المعلمين من الأعضاء وغيرهم أن يَدْرُس فيها هذه المواد على أيدي كبار حضرات الأعضاء المستطيعين لذلك.
يلي هذه الوسيلة وسيلةٌ أخرى تحول دونها عقبات كثيرة وتغني عنها الوسيلة الأولى إذا تحققت.. وذلك أن تقوم جمعيات (الشبان المسلمين) بإنشاء مدارس لتخريج معلمي الدين والأخلاق واللغة العربية، والعقبات التي تحول دون ذلك قلة المال، وعدم اعتراف الحكومة بإجازات هذه المدارس وشهاداتها، وحينئذ يكون هذا النوع من المعلمين قاصرًا على مدارس جمعيات الشبان على اختلاف أنواعها.
ويذكِّرني ذلك بنظام (اليسوعيين) في مبدأ أمرهم، فقد تألفت جمعياتهم لنصرة (البابا)، وبثَّ (الكثلكة) في النفوس، ورأوا أن خير وسيلة لذلك هي إصلاح التعليم، فأنشأوا مدارسهم على طبقات مختلفة: منها الابتدائي والثانوي والعالي، بهذين كان جلُّ اعتنائهم، وانفصلوا عن كل نظام للتعليم آنذاك، منفردين بنظم إدارية وفنية خاصة، واضطرهم ذلك إلى تكوين معلمي هذه المدارس تكوينًا خاصًا ينتج ما ترمي إليه جماعاتهم من الغايات.. وقد لاقوا في مبدأ أمرهم نجاحًا عظيمًا، وكانت مدارسهم تعد بالمئين، ولا تزال آثارُهم في الجهاد لدعوتهم باقيةً إلى الآن.
فإذا لم توافق الحكومة على العناية بالتعليم الديني في مدارسها- طبق ما تريد جمعيات الشبان، وطبق ما ينتج الغاية الإسلامية المطلوبة، وتمكنت جمعيات الشبان من سلوك هذا الطريق الاستقلالي في شئون التعليم- فإنها تكونُ أبرك وأنفع خطوة يتيمَّن بها العالم الإسلامي، ويرجو من ورائها الفتح والظفر والرجوع إلى حظيرة دينه القويم.
وقريب من هذه الفكرة ما كان من إنشاء جماعة المصلحين في عهد الأستاذ الإمام رحمه الله لمدرسة دار الدعوة والإرشاد، فقد كانت الغاية منها تخريج معلمين يعظون الشعب ويرشدونه مستقلين عن سلطة الحكومة والقيود الرسمية، فأماتها البخل من ناحية، وخمود الهمم وضعف الثبات من ناحية أخرى، ولسنا نريد بذلك أن نتعرض لأنها حققت الغاية أو لم تحقق، فليس هذا من قصدنا، على أنها لم تطل مدتها حتى يتمكن الباحث من الحكم، لكن الذي نريد أن نصل إليه أن فكرة الاستقلال بالتعليم عن النظام الحكومي فكرة خامرت الكثيرين من زعماء الإصلاح فليس بدعًا أن نعرض لها اليوم، وقد تكون الظروف الآن أشد ملاءمةً لهذه الغاية من ذي قبل.. فهل تتمكن جمعيات الشبان المسلمين من سلوك هذا السبيل؟ وهل عجزت ألا تحاول فكرة تخصيص المعلمين وطلبة المعلمين والوعاظ بفصول يتزودون فيها بالعلوم الإسلامية التي تعينهم على تحقيق الغاية؟ وهل تعجز مع ذلك عن السعي لدى ولاة الأمور في إصلاح مناهج التعليم وخاصة في مصر لما فيها من حركة الإصلاح العلمي السانحة؟ نظنها لا تعجز عن هذين، ونأمل أن نراها في سبيل تحقيقها قريبًا.
كل ما تقدم سقناه بمناسبة وجوب إصلاح المعلم الذي هو نصف المدرسة.. أما إصلاح المنهج- وهو النصف الثاني- فيجب أن يقرن بتوفير الحصص الكافية لفروع الدين، من الفقه وأسراره والعقائد وأدلتها والتاريخ الإسلامي والسيرة واللغة العربية، إذ هي وسيلة فهم القرآن وتدبره، وهو أساس هذا الدين وروحه، وإظهار العناية بهذه المادة عنايةً ظاهرةً وجعلُها مادةً أساسيةً، فإذا كانت المدارس مستقلةً عن المدارس الحكومية أضيف إلى هذا المواد موادَ المنهج الحكومي؛ حتى تحقق بذلك أمل التلميذ في التقدُّم إلى الشهادات الرسمية، ويكون مثلها في ذلك مثل مدارس التبشير التي تباري مدارس الحكومة في العلوم الرسمية بعد حذف ما لا لزوم له منها، وتحقق مع هذا غايتها الدينية بإجبار التلاميذ على دراسة الدين والقيام بشعائره.
ولما كان للروح العام أبلغُ الأثر في نفس الطفل وتكوينه الخلقي، ولا سيما في المدارس الابتدائية والسنوات الأولى من الثانوي- حيث يغلب على الناشئ التقليد- وجب أن يكون هذا الروح دينيًّا فاضلاً، ووسائل ذلك: أن يكون الاهتمام بالدين واحترامه وتشجيع من يبدو عليهم حبه والعمل به شعارُ كل موظفي المدرسة من إداريين وفنيين، وإشعار التلاميذ بذلك، وإلزامهم أداء الفروض بدار المدرسة، وإعداد مسجد خاص بهم تقام به الشعائر كالأذان والإقامة يقوم بها التلاميذ أنفسهم، ويقابلها أساتذتهم بالامتثال والاحترام والخشوع، فيشبُّ التلميذ على ذلك ويقلِّدهم فيه.
بعد هذا يمكننا أن نتصوَّر المدرسة التي ننشدها في التعليم الأولي أو الابتدائي مدرسةً كاملة المعدات على طراز أبنية المدارس الأميرية، يلحق بها مسجد يتناسب مع عددها وأهميتها وظروفها الخاصة، تدرس فيها المواد الرسمية زائدًا عليها الدين وتوابعه يقوم بتدريس ذلك معلم ومدير على قدم في الدين والأخلاق وضلاعةٍ في علومها والتمسك بآدابها، يسودها روح عام ديني فاضلٍ.. ومثل ذلك قَلَّ في المدارس الثانوية والعالية والفنية والصناعية ونحوها مع مراعاة الغاية الأخرى في كل..
أما الذي يقوم بالإشراف العام على هذه المدارس فهي جمعيات الشبان المسلمين طبعًا، والحذر من أن تتحول الغاية تدريجيًّا ويتغلب العرف والتيار العادي على هذه المدارس المنشأة لغاية خاصة فتجاري غيرها ويضيع المقصد من إنشائها..
فهذه (الجمعية الخيرية الإسلامية) كان القصد الأول من إنشاء مدارسها تحقيق هذه الغاية بنصها وبتوالي الأزمان والإدارات أصبحت الآن ولا فرقَ بينها وبين المدارس الحكومية، واندثر ذلك المقصد الشريف الذي من أجله أُنشئت هذه المدارس وله أُلفت الجمعية وعليه أُسِّست، والزمن قُلَّب، ولا يُلدَغ المؤمن من جُحرٍ مرتين..
وأما إذا لم تتمكن الجمعية من هذا فلا أقل من أن تَبذل الجهد لدى الحكومات وجمعيات التعليم في تحقيق هذه الوسائل بعضها أو كلها على قدر الممكن، ويكون ذلك جهد المقلِّ وحيلة العاجز، والأمر بيد الله، ويسرُّنا أن نرى فرع (الإسكندرية) يعلن عن فتح فصول جديدة للتلاميذ في عطلة الصيف، ونرجو أن يكون المهم لديه انتهاز هذه الفرصة في تشجيع الروح الدينية.. وكذلك أنشأ بعض فروع (فلسطين) مكاتب ومدارس للتعليم الديني فكانت خطوةً نرجو أن تستمر في طريق الرقيِّ والكثرة والتشجيع.

3- البيئـة
وهي العامل الثالث من عوامل التربية، ويجب أن نُعنى بشأنها لما لها من عظيم الأثر في نفس الطفل وخلقه كذلك، وتشمل البيئة:

** (الإخوان) والأصدقاء:
يجب أن نرشد الناشئ إلى مصاحبة الأخيار، ونبين له فضيلة ذلك، ونحول بينه وبين مخالطة الأشرار مع شرح ما يستهدف له من الخطر إذا صاحبهم وعرف بصداقتهم، وعلينا أن نفهم الآباء ذلك بالنشرات والمحاضرات والإرشادات وبكل وسيلة ممكنة.. وقد أرشد الرسول- صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بحديثه المشهور..
فقد أخرج الشيخان عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثةً"، كما أرشد إليها القرآن الكريم في قول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ (الكهف:28).

** الأندية والمحال العمومية:
وهذه لها عظيم الأثر في نفس الناشئ، فيجب أن يَعرف منها بكل ما يرشد إلى خلق ديني، ويبعد عن كل ما يضم مفاسد الدين والخلق كالمسارح الهازلة، والمراقص الخليعة والمقاهي الموبوءة، ويرصد إلى أمثال أندية الجمعيات الإسلامية..
ولنادي جمعية الشبان في ذلك أثر يذكر، فيُشكر بما أنه يحول بين الشبان وبين مجالس السوء، ويزودهم بما يسمعون من عظات نافعة، ومحاضرات قيمة ومذاكرات دقيقة ومسامرات رقيقة..

** الاحتفالات الدينية:
يجب أن يصحب الناشئَ وليُّ أمره إلى محال هذه الاحتفالات البريئة التي تتجلى فيها مشاهد جلال الإسلام وروعته، كالجمعة والعيدين وحفل رأس السنة- ذكرى الهجرة- والمولد النبوي بدور الجمعيات الإسلامية، لا بتلك المهازل التي تمثَّل باسم الدين في الموالد ونحوها..

خاتمـة:
وبعد يا سادتي.. فهذه عوامل التربية أو أكثرها وأهمها، عالجت في هذه الكلمة بعض وجوه إصلاحها، وقد رأينا أن جمعياتنا المحبوبة قد قامت ببعض الواجب في سلوك هذا الطريق، إلا أنَّ المهمَّة شاقَّةً، وفي حاجة إلى جهود متواصلة، وإلى تضحية وثبات وتقدير، لما يُحيطُ بنا من ظروف تفرض علينا الدأب في العمل، فأتقدَّم إلى حضرتكم بالرجاء الكبير أن نكون جميعًا أعوانًا عاملين على تحقيق هذه الفكرة النبيلة السامية فكرة تهذيب النشءِ وتربيته تربيةً إسلاميةً، وأن ننفذ ذلك في كل مَن لنا عليهم ولايةٌ.. والله حسبنا وهو نعم الوكيل.